الاثنين، 30 نوفمبر 2015

نشأة علم النفس التربوي




         قبل تطور علم النفس وعلم النفس التربوي كفرع لهذا العلم ،  فإن المختصين على اختلاف أهوائهم وعصورهم قد حاولوا سبر العلاقة بين طبيعة الفرد وخصائصه السلوكية الشخصية وعملية تربيته أو تعليمه. (حمدان، ص 88–91 ، 1988)
         فالفيلسوف اليوناني (Democritus)  الذي عاش خلال القرن الخامس قبل الميلاد ، لم ينتبه فقط إلى أهمية التعليم والتربية في حياة الفرد ، بل كتب عن تأثير البيت والأسرة في حياة الطفل .
         أما أفلاطون وأرسطو فكتاباتهما وأفكارهما حول التربية وأثرها في نمو الفرد نفسياً وتربوياً واجتماعياً تمثل حجر الزاوية للعديد من مظاهر تطور الفكر الإنساني حتى عصرنا الحاضر . لقد عالج أفلاطون وأرسطو أموراً تربوية كثيرة منها: نتائج عملية التعليم ، أهلية التلميذ للتعلم ، واختلاف التعلم حسب اختلاف أنواع الناس ، وصقل مواهب الفرد وتشكيل شخصيته الخيّرة ، وأثر الأسرة في تربية الطفل، ودور الدولة في التربية الخلقية للفرد ، ومهنة التدريس ، والعلاقة بين المعلم والتلميذ ، ووسائل وطرق التدريس ، وطبيعة التعلم ونظامه ، والخصائص العاطفية للتعلم ، والتعلم المستقل ... إلى غير ذلك مما يتعلق بالتعلم والتعليم .
إن كتابات أرسطو الخاصة بالتربية قد أثرت في الواقع في مجالين مهمين : تطور علم نفس القدرات العقلية ثم أهمية العمليات والقوى العقلية في حياة الفرد، حيث أفادت عدداً من العلماء المسلمين كالغزالي وابن سينا وابن الطفيل ..  والأوروبيين مثل توماس الأكويني الذي أخرج سوما ثيولوجيا (Summa Theologiae)   في القرن الثالث عشر ، وحاول خلاله التوفيق بين تعاليم أرسطو والعقيدة المسيحية . والجدير بالذكر أن هذا الكتاب لا يزال يمثل معتقدات كنيسة روما الكاثوليكية .
         ولا ننسى بالطبع ما أجاد به بعض علمائنا العرب .  وما ابن جماعة إلا مثال عن ذلك (واسمه هو بدر الدين بن جماعة الكناني الحموي ، ولد بمدينة حماة السورية عام 639هـ وتوفى بمصر سنة 733هـ) .  فبالرغم من سعة علمه وتنوّع اهتماماته وتفوقه في التربية والتدريس كما تدّل على ذلك سيرته العملية والعلمية المتخصصة في هذا المجال من خلال كتابه : " تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم " ؛ إلاّ أنه يعدّ – في رأينا – من أكثر علماء العرب والمسلمين الذين يتم إنصافهم وإبراز جهودهم وأفكارهم التربوية الريادية لدى الباحثين المحليين والغربيين المهتمين بالشرق والدراسات الشرقية... ولا ندري تعليلاً لذلك سوى استغراب الأمر واعتباره ظاهرة ظالمة بحق ابن جماعة شيخ التربية وعمادها الجليل .. . تماماً كما كان ابن سينا شيخ الطب والصيدلة ، والخوارزمي للجغرافية والرياضيات ، وجابر بن حيان للكيمياء والجبر ، وابن طفيل للفلسفة .
         ومهما يكن من عدم إنصاف سيرة ومنجزات ابن جماعة من العلماء وتاريخ الحضارة ، فإن الرجل قد أبدع في التربية علماً وتطبيقـاً . فقد كان معلماً إنساناً مرناً واسع الأفق والاطلاع ؛ أما في علم التربية ، فيدلّ محتوى كتابه : " تذكرة السامع والمتكلم .." على غزارة فكره وحداثة آرائه وشمول رؤياه، بحيث تناول المواصفات النموذجية لمعظم عوامل وعمليات التدريس من معلمين ، وتلاميذ ، ومناهج ، وإدارة صفية ، وتسهيلات مدرسية ، وخدمات مساعدة ، وكيفيات التعلم المفيد من التلاميذ.
ونتيجة دراستنا لكتاب ابن جماعة ، وجدنا أفكاره وممارساته التربوية تتفق في مجملها مع معطيات علم النفس والتربية المعاصرين ... في زمنه لم يكن بالطبع علماً مكتوباً منظماً للنفس ، ولا تربية مقنعة بالصيغ التي نخبرها هذه الأيام .
         فقد أكدّ شيخنا التربوي الكبير على دور الحوافز والتحفيز والتعزيز والإدارة والانضباط السلوكي للتلاميذ ... كما كتب عن الفروق الفردية والبناء الإدراكي للمتعلمين وأثره في التعلم ، وتناول الاستعداد أو ذكاء القدرات الخاصة ، والفترة الحرجة للتعلم وأهمية الترويح والتركيز في الاستيعاب ، والتصحيح والتعديل السلوكي... والتعامل الإنساني ورعاية حاجات التلاميذ ، واهتماماتهم الفردية ، وهذا ما تدعو إليه هذه الأيام أحدث المدارس النفسية التربوية - المدرسة الإنسانية.
         وأعتقد أنه ليس من المبالغة في شيء بأن نقول أن علم النفس التربوي لم ينشأ بأطره الرسمية المتخصصة خلال النصف الأول من القرن الحالي ، بل في القرن الثاني عشر الميلادي على يد ابن جماعة العربي الشامي رحمه الله .
         ومهما يكن ، فقد ظهرت في القرن السابع عشر مدارس نفسية مُحددة منها: المدرسة التجريبية للعالم الإنجليزي جون لوك والتي تقوم على المبدأ القائل بأن عقل الطفل يولد كصفحة بيضاء ، ومن خلال خبراته المتتابعة مع الحياة والبيئة يعي الطفل مختلف الأشياء حوله . إن الصراع بين جماعتي علم النفس التجريبي والعقلي (الذاتي)، قد حفز فئة ثالثة من علماء النفس والتربية مثل فريدريك هربارت الألماني خلال القرن التاسع عشر الذي كان أول من خصّص مباشرة العلاقة بين التربية وعلم النفس . فبينما تحفّظ هربارت على عدد من مفاهيم علمي النفس التجريبي والعقلي ، أكد في الوقت نفسه على أهمية الرغبة Interest  والإدراك الذاتي Apperception  لعملية التعلم ، الأمر الذي كان له أثره الواضح في علم النفس التربوي الأمريكي في فترة ما بعد 1890 .
         وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت مجموعة من العلماء الذين درسوا تأثير بعض العوامل كالوراثة - فرانسيس غالتون ، والبيئة - جيمس كاتيل ، والذكاء - الفريد بينيه ، والقدرة على التكيف والعادة الفردية - على نمو الفرد وخصائصه الشخصية . ولقد كان لدراسات وأبحاث هؤلاء العلماء وغيرهم في ميداني علم النفس والتربية أثر بالغ في تطوير علم النفس التربوي كحقل علمي مكتوب خلال النصف الأول من القرن العشرين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق